عجلة الإنسان وحكمة الله: عندما يمنحنا ما نحتاج لا ما نريد
الأربعاء 21/11/2024
تغريد برهوش
يولد الإنسان بطبيعة عجولة، ضيقة الأفق، تتسم بنظرة سطحية إلى الأمور. يعيش في اللحظة، يطلب ما يراه مريحًا أو مُرضيًا دون أن يدرك أبعاده، وكأنه لا يعي أن ما يريده قد يكون مصدر شر أكبر من الخير الذي يظنه فيه. تأمل قول الله تعالى: “وَيَدْعُو الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنسَانُ عَجُولًا” (الإسراء: 11). هذه الآية الكريمة تختصر في عمقها فلسفة العلاقة بين رغبات الإنسان المحدودة وحكمة الله المطلقة.
بين الحاجة والرغبة: هل نعرف حقًا ما نريد؟
عندما ندعو الله، نحن غالبًا نطلب بناءً على ما نراه أو نعيشه في لحظتنا الآنية. نرى الألم فنطلب الراحة، نرى الحاجة فنطلب الإشباع، ونرى النقص فنطلب الامتلاء. لكن هل ندرك حقًا ما وراء هذه الرغبات؟ قد نطلب المال، وهو في ظاهره نعمة، لكنه قد يكون بوابة إلى الطمع أو الفساد. قد نطلب النجاح، لكنه قد يجرنا إلى الكِبر أو نسيان ذاتنا الحقيقية. رغباتنا غالبًا ما تكون محكومة بنظرتنا السطحية للأمور، بينما حاجاتنا الحقيقية محكومة بحكمة الخالق، الذي يرى ما لا نراه ويعلم ما لا نعلم.
“حكمة الله؛ العطاء وفق التوقيت والشكل”
الله، في علمه المطلق ورحمته اللامحدودة، يعطي الإنسان ما يحتاج إليه، لا ما يريده. وهذا العطاء يأتي وفق توقيت وشكل يعجز عقل الإنسان عن استيعابه. قد تتأخر الإجابة على الدعاء لأن هذا “التأخير” هو في جوهره جزء من الإجابة. قد تأتي الإجابة في صورة لم نتوقعها، لكنها تحمل في طياتها خيرًا أكبر مما حلمنا به. فعندما يدعو الطفل والدَيه بشيء يراه من وجهة نظره ووفق رغباته ضروريًا، كأن يطلب تناول الحلوى باستمرار، يدرك الوالدان – بحكمتهما وتجربتهما – أن الاستجابة لهذا الطلب ستلحق به ضررًا. فيمنعانه من طلبه، لا قسوةً، بل رحمةً. هذا المثال البسيط يعكس كيف يتعامل الله سبحانه وتعالى معنا، نحن الذين كثيرًا ما نتصرف كالأطفال أمام حكمته وعلمه.
الدعاء فعل عبودية يعبّر عن ضعفنا البشري أمام قدرة الله المطلقة. لكن الدعاء أيضًا يتطلب منا إدراكًا عميقًا بأن الإجابة ليست حقًا مكتسبًا بل نعمة يمنحها الله وفق ما يراه مناسبًا. على الإنسان أن يدعو بصدق، أن يطلب من الله الخير، ولكن عليه أيضًا أن يثق في أن الله هو الأعلم بما يصلح له.
كما أن الثقة في الله لا تعني التواكل أو القبول بالواقع دون سعي، لكنها تعني الإيمان بأن السعي مقرونٌ دومًا بحكمة الله التي تُكمل الجهد البشري. يقول ابن عطاء الله السكندري: “لا يكن تأخر أمد العطاء مع الإلحاح في الدعاء موجبًا ليأسك، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختاره لنفسك، وفي الوقت الذي يريد، لا في الوقت الذي تريد.” وما علينا إلا الدعاء بين السعي والتسليم
على الإنسان أن يدرك أنه لا يستطيع أن يرى الصورة الكاملة، وأن الحكمة الإلهية تفوق كل تصوراته وأحلامه وتوقعاته. “الله يعطي ما يشاء، متى يشاء، وكيفما يشاء” نحن مسؤولون عن الدعاء والسعي، وسبحانه وتعالى المسؤول عن الإجابة التي تحمل الخير في طياتها، مهما بدت لنا غير ذلك.
في كل مرة نرفع أيدينا بالدعاء، لنتذكر أن ما نطلبه قد يكون شرًا ونحن لا نعلم، وأن ما يمنعنا الله عنه هو رحمة تخفيها حكمته المطلقة.
الله يعطينا حاجاتنا، وليس دائمًا ما نرغب فيه. سبحانه الخالق الرحمن الرحيم الذي يعلم السر وأخفى.